فصل: الجزء الحادي عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء الحادي عشر

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

لما نفت الآيتان السابقتان أن يكون سبيلٌ على المؤمنين الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون والذين لم يجدوا حمولة، حصرت هذه الآية السبيل في كونه على الذين يستأذنون في التخلف وهم أغنياء، وهو انتقال بالتخلص إلى العودة إلى أحوال المنافقين كما دل عليه قوله بعدُ ‏{‏يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 94‏]‏، فالقصر إضافي بالنسبة للأصناف الذين نُفي أن يكون عليهم سبيل‏.‏

وفي هذا الحصر تأكيد للنفي السابق، أي لا سبيل عقاببٍ إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء‏.‏ والمراد بهم المنافقون بالمدينة الذين يكرهون الجهاد إذ لا يؤمنون بما وعد الله عليه من الخيرات وهم أولو الطول المذكورون في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 86‏]‏ الآية‏.‏

والسبيل‏:‏ حقيقته الطريق‏.‏ ومرّ في قوله‏:‏ ‏{‏مَا على المحسنين من سبيل‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء‏}‏ مستعار لمعنى السلطان والمؤاخذة بالتبعة، شبه السلطان والمؤاخذة بالطريق لأن السلطة يَتوصل بها من هي له إلى تنفيذ المؤاخذة في الغير‏.‏ ولذلك عُدّي بحرف ‏(‏على‏)‏ المفيد لمعنى الاستعلاء، وهو استعلاء مجازي بمعنى التمكن من التصرف في مدخول ‏(‏على‏)‏‏.‏ فكان هذا التركيب استعارةً مكنية رُمز إليها بما هو من مُلائمات المشبه به وهو حرف ‏(‏على‏)‏‏.‏ وفيه استعارة تبعية‏.‏

والتعريف باللام في قوله‏:‏ ‏{‏إنما السبيل‏}‏ تعريف العهد، والمعهود هو السبيل المنفي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ على قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة، أي إنما السبيل المنفي عن المحسنين مثبت للذين يستأذنونك وهم أغنياء‏.‏ ونظير هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم‏}‏ في سورة الشورى ‏(‏42‏)‏‏.‏ فدل ذلك على أن المراد بالسبيل العذاب‏.‏

والمعنى ليست التبعة والمؤاخذة إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء، الذين أرادوا أن يتخلفوا عن غزوة تبوك ولا عذر لهم يخولهم التخلف‏.‏ وقد سبقت آية ‏{‏فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً‏}‏ من سورة النساء ‏(‏90‏)‏، وأحيل هنالك تفسيرها على ما ذكرناه في هذه الآية‏.‏

وجملة‏:‏ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف‏}‏ مستأنفة لجواب سؤال ينشأ عن علة استيذانهم في التخلف وهم أغنياء، أي بعثهم على ذلك رضاهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء‏.‏ وقد تقدم القول في نظيره آنفاً‏.‏

وأسند الطبع على قلوبهم إلى الله في هذه الآية بخلاف ما في الآية السابقة ‏{‏وطُبع على قلوبهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 87‏]‏ لعله للإشارة إلى أنه طبع غير الطبع الذي جبلوا عليه بل هو طبع على طبع أنشأه الله في قلوبهم لغضبه عليهم فحرمهم النجاة من الطبع الأصلي وزادهم عماية، ولأجل هذا المعنى فرع عليه ‏{‏فهم لا يعلمون‏}‏ لنفي أصل العلم عنهم، أي يكادون أن يساووا العجماوات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي لأن هذا الاعتذار ليس قاصراً على الذين يستأذنون في التخلف فإن الإذن لهم يُغنيهم عن التبرؤ بالحلف الكاذب، فضمير ‏{‏يعتذرون‏}‏ عائد إلى أقرب معاد وهو قوله‏:‏ ‏{‏وقعد الذين كذبوا الله ورسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 90‏]‏ فإنهم فريق من المنافقين فهم الذين اعتذروا بعد رجوع الناس من غزوة تبوك وجعل المسند فعلاً مضارعاً لإفادة التجدد والتكرير‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ هنا مستعملة للزمان الماضي لأن السورة نزلت بعد القفول من غزوة تبوك وجعل الرجوع إلى المنافقين لأنهم المقصود من الخبر عند الرجوع‏.‏

والخطاب للمسلمين لأن المنافقين يقصدون بأعذارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعيدونها مع جماعات المسلمين‏.‏ والنهي في قوله‏:‏ ‏{‏لا تعتذروا‏}‏ مستعمل في التأييس‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لن نؤمن‏}‏ في موضع التعليل للنهي عن الاعتذار لعدم جدوى الاعتذار، يقال‏:‏ آمن له إذا صدقه‏.‏ وقد تقدم في هذه السورة ‏(‏61‏)‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويؤمن للمؤمنين‏}‏

وجملة‏:‏ قد نبأنا الله من أخباركم‏}‏ تعليل لنفي تصديقهم، أي قد نبأنا الله من أخباركم بما يقتضي تكذيبكم، فالإبهام في المفعول الثاني ل ‏{‏نبأنا‏}‏ الساد مسد مفعولين تعويل على أن المقام يبينه‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ اسم بمعنى بعض، أو هي صفة لمحذوف تقديره‏:‏ قد نبأنا الله اليقين من أخباركم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وسيرى الله عملكم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لا تعتذروا‏}‏، أي لا فائدة في اعتذاركم فإن خشيتم المؤاخذة فاعملوا الخيرَ للمستقبل فسيرى الله عملكم ورسوله إن أحسنتم؛ فالمقصود فتح باب التوبة لهم، والتنبيه إلى المكنة من استدراك أمرهم‏.‏ وفي ذلك تهديد بالوعيد إن لم يتوبوا‏.‏

فالإخبار برُؤية الله ورسوله عملهم في المستقبل مستعمل في الكناية عن الترغيب في العمل الصالح، والترهيب من الدوام على حالهم‏.‏ والمراد‏:‏ تمكنهم من إصلاح ظاهر أعمالهم، ولذلك أردف بقوله‏:‏ ‏{‏ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏، أي تصيرون بعد الموت إلى الله‏.‏ فالرد بمعنى الإرجاع، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ردّوا إلى الله مولاهم الحق‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏62‏)‏‏.‏

والرد‏:‏ الإرجاع‏.‏ والمراد به هنا مصير النفوس إلى عالم الخلد الذي لا تصرف فيه لغير الله ولو في ظاهر الأمر‏.‏ ولما كانت النفوس من خلق الله وقد أنزلها إلى عالم الفناء الدنيوي فاستقلت بأعمالها مدة العمر كان مصيرها بعد الموت أو عند البعث إلى تصرف الله فيها شبيهاً برد شيء إلى مقره أو إرجاعه إلى مالكه‏.‏

والغيب‏:‏ ما غاب عن علم الناس‏.‏ والشهادة‏:‏ المشاهدة‏.‏ واللام في الغيب‏}‏ و‏{‏الشهادة‏}‏ للاستغراق، أي كل غيب وكل شهادة‏.‏

والعدول عن أن يقال‏:‏ لم تردون إليه، أي إلى الله، لما في الإظهار من التنبيه على أنه لا يعزب عنه شيء من أعمالهم، زيادة في الترغيب والترهيب ليعلموا أنه لا يخفى على الله شيء‏.‏

والإنباء‏:‏ الإخبار‏.‏ وما كنتم تعملون‏:‏ علم كل عمل عملوه‏.‏

واستعمل ‏{‏فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ في لازم معناه، وهو المجازاة على كل ما عملوه، أي فتجدونه عالماً بكل ما عملتموه‏.‏ وهو كناية؛ لأن ذكر المجازاة في مقام الإجرام والجناية لازم لعموم علم مَلك يوم الدين بكل ما عملوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

الجملة مستأنفة ابتدائية تعداد لأحوالهم‏.‏ ومعناها ناشئ عن مضمون جملة ‏{‏لن نؤمن لكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 94‏]‏ تنبيهاً على أنهم لا يرعَوُون عن الكذب ومخادعة المسلمين، فإذا قيل لهم ‏{‏لن نؤمن لكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 94‏]‏ حلفوا على أنهم صادقون ترويجاً لخداعهم‏:‏ وهذا إخبار بما سيلاقِي به المنافقون المسلمين قبل وقوعه وبعد رجوع المسلمين من الغزو‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ هنا ظرف للزمن الماضي‏.‏ وحذف المحلوف عليه لظهوره، ولتقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 42‏]‏ إلا أن ما تقدم في حلفهم قبل الخروج‏.‏

والانقلاب‏:‏ الرجوع، وتقدم في قوله ‏{‏انقلبتم على أعقابكم‏}‏ في آل عمران ‏(‏144‏)‏‏.‏

وصرح بعلة الحلف هنا أنه لقصد إعراض المسلمين عنهم، أي عن عتابهم وتقريعهم، للإشارة إلى أنهم لا يقصدون تطييب خواطر المسلمين ولكن أرادوا التملّص من مسبة العتاب ولَذْعِه‏.‏ ولذلك قال في الآيتين الأخريين ‏{‏يحلفون بالله لكم ليرضوكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏ ‏{‏يحلفون لكم لترضَوا عنهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 96‏]‏ لأنّ ذلك كان قبل الخروج إلى الغزو فلما فات الأمر وعلموا أن حلفهم لم يصدقه المسلمون صاروا يحلفون لقصد أن يُعرض المسلمون عنهم‏.‏

وأدخل حرف ‏(‏عن‏)‏ على ضمير المنافقين بتقدير مضاف يدل عليه السياق لظهور أنهم يريدون الإعراض عن لومهم‏.‏ ففي حذف المضاف تهيئة لتفريع التقريع الواقع بعده بقوله‏:‏ ‏{‏فأعرضوا عنهم‏}‏، أي فإذا كانوا يرومون الإعراض عنهم فأعرضوا عنهم تماماً‏.‏

وهذا ضرب من التقريع فيه إطماع للمغضوب عليه الطالب بأنّه أجيبت طِلبته حتى إذا تأمّل وجد ما طمع فيه قد انقلب عكس المطلوب فصار يأساً لأنهم أرادوا الإعراض عن المعاتبة بالإمساك عنها واستدامة معاملتهم معاملةَ المسلمين، فإذا بهم يواجهون بالإعراض عن مكالمتهم ومخالطتهم وذلك أشد مما حلفوا للتفادي عنه‏.‏ فهم من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه أو من القول بالموجَب‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنهم رجس‏}‏ تعليل للأمر بالإعراض‏.‏ ووقوع ‏(‏إنّ‏)‏ في أولها مؤذن بمعنى التعليل‏.‏

والرجس‏:‏ الخبث‏.‏ والمراد تشبيههم بالرجس في الدناءة ودنس النفوس‏.‏ فهو رجس معنوي‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏‏.‏

والمأوى‏:‏ المصير والمرجع‏.‏

و ‏{‏جزاء‏}‏ حال من ‏{‏جهنم‏}‏، أي مجازاة لهم على ما كانوا يعملون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة‏:‏ ‏{‏سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 95‏]‏ لأنهم إذا حلفوا لأجل أن يعرض عنهم المسلمون فلا يلوموهم، فإن ذلك يتضمن طلبهم رضى المسلمين‏.‏

وقد فرّع الله على ذلك أنه إن رضي المسلمون عنهم وأعرضوا عن لومهم فإن الله لا يرضى عن المنافقين‏.‏ وهذا تحذير للمسلمين من الرضى عن المنافقين بطريق الكناية إذ قد علم المسلمون أن ما لا يُرضي الله لا يكون للمسلمين أن يرضوا به‏.‏

والقوم الفاسقون هم هؤلاء المنافقون‏.‏ والعدول عن الإتيان بضمير ‏(‏هم‏)‏ إلى التعبير بصفتهم للدلالة على ذمهم وتعليل عدم الرضى عنهم، فالكلام مشتمل على خبر وعلى دليله فأفاد مفاد كلامين لأنه ينحلّ إلى‏:‏ فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عنهم لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏97‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي رجع به الكلام إلى أحوال المعذّرين من الأعراب والذين كذبوا الله ورسوله منهم، وما بين ذلك استطراد دعا إليه قرن الذين كذبوا الله ورسوله في الذكر مع الأعراب‏.‏ فلما تقضَّى الكلام على أولئك تخلص إلى بقية أحوال الأعراب‏.‏ وللتنبيه على اتصال الغرضين وقع تقديم المسند إليه، وهو لفظ ‏(‏الأعراب‏)‏ للاهتمام به من هذه الجهة، ومن وراء ذلك تنبيه المسلمين لأحوال الأعراب لأنهم لبعدهم عن الاحتكاك بهم والمخالطة معهم قد تخفى عليهم أحوالهم ويظنون بجميعهم خيراً‏.‏

و ‏(‏أشد‏)‏ و‏(‏أجدر‏)‏ اسما تفضيل ولم يذكر معهما ما يدل على مفضل عليه، فيجوز أن يكونا على ظاهرهما فيكون المفضل عليه أهل الحضر، أي كفار ومنافقي المدينة‏.‏ وهذا هو الذي تواطأ عليه جميع المفسرين‏.‏

وازديادهم في الكفر والنفاق هو بالنسبة لكفار ومنافقي المدينة‏.‏ ومنافقوهم أشد نفاقاً من منافقي المدينة‏.‏ وهذا الازدياد راجع إلى تمكن الوصفين من نفوسهم، أي كفرهم أمكن في النفوس من كفر كفار المدينة، ونفاقهم أمكن من نفوسهم كذلك، أي أمكن في جانب الكفر منه والبعدِ عن الإقلاع عنه وظهور بوادر الشر منهم، وذلك أن غلظ القلوب وجلافة الطبع تزيد النفوس السيئة وحشة ونفوراً‏.‏ ألا تعلم أن ذا الخويصرة التميمي، وكان يدعى الإسلام، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس ومن معه من صناديد العرب من ذهب قَسمَه قال ذو الخويصرة مواجهاً النبي صلى الله عليه وسلم «اعدل» فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ويحك ومَن يعدل إن لم أعْدِل ‏"‏

فإن الأعراب لنشأتهم في البادية كانوا بعداء عن مخالطة أهل العقول المستقيمة وكانت أذهانهم أبعد عن معرفة الحقائق وأملأ بالأوهام، وهُم لبعدهم عن مشاهدة أنوار النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه وعن تلقي الهدى صباحَ مساءَ أجهلُ بأمور الديانة وما به تهذيب النفوس، وهم لتوارثهم أخلاق أسلافهم وبعدهم عن التطورات المدنية التي تؤثّر سُمّوا في النفوس البشرية، وإتقاناً في وضع الأشياء في مواضعها، وحكمة تقليدية تتدرج بالأزمان، يكونون أقرب سيرة بالتوحش وأكثر غلظة في المعاملة وأضيع للتراث العلمي والخلقي؛ ولذلك قال عثمان لأبي ذرّ لما عزم على سكنى الربذة‏:‏ تَعَهَّد المدينةَ كيلا ترتَدَّ أعرابياً‏.‏

فأما في الأخلاق التي تحمد فيها الخشونة والغلظة والاستخفاف بالعظائم مثل الشجاعة؛ والصراحة وإباء الضيم والكرم فإنها تكون أقوى في الأعراب بالجبلة، ولذلك يكونون أقرب إلى الخير إذا اعتقدوه وآمنوا به‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏أشد‏}‏ و‏{‏أجدر‏}‏ مسلوبَيْ المفاضلة مستعملين لقوة الوصفين في الموصوفِين بهما على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ فالمعنى أن كفرهم شديد التمكن من نفوسهم ونفاقهم كذلك، من غير إرادة أنهم أشد كفراً ونفاقاً من كفار أهل المدينة ومنافقيها‏.‏

وعلى كلا الوجهين فإن ‏{‏كفراً ونفاقاً‏}‏ منصوبان على التمييز لبيان الإبهام الذي في وصف ‏{‏أشد‏}‏‏.‏ سلك مسلك الإجمال ثم التفصيل ليتمكن المعنى أكمل تمكن‏.‏

والأجدر‏:‏ الأحق‏.‏ والجَدارة‏:‏ الأولوية‏.‏ وإنما كانوا أجدر بعدم العلم بالشريعة لأنهم يبعدون عن مجالس التذكير ومنازل الوحي، ولقلة مخالطتهم أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذفت الباء التي يتعدى بها فعل الجدارة على طريقة حذف حرف الجر مع ‏(‏أن‏)‏ المصدرية‏.‏

والحدود‏:‏ المقادير والفواصل بين الأشياء‏.‏ والمعنى أنهم لا يعلمون فواصل الأحكام وضوابط تمييز متشابهها‏.‏

وفي هذا الوصف يَظهر تفاوت أهل العلم والمعرفة‏.‏ وهو المعبر عنه في اصطلاح العلماء بالتحقيق أو بالحكمة المفسرة بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، فزيادة قيد ‏(‏على ما هي عليه‏)‏ للدلالة على التمييز بين المختلطات والمتشابهات والخفيات‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ تذييل لهذا الإفصاح عن دخيلة الأعراب وخلقهم، أي عليم بهم وبغيرهم، وحكيم في تمييز مراتبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏98‏)‏‏}‏

هذا فريق من الأعراب يُظهر الإيمان ويُنفق في سبيل الله‏.‏ وإنما يفعلون ذلك تقية وخوفاً من الغزو أو حباً للمحمدة وسلوكاً في مسلك الجماعة، وهم يبطنون الكفر وينتظرون الفرصة التي تمكِّنهم من الانقلاب على أعقابهم‏.‏ وهؤلاء وإن كانوا من جملة منافقي الأعراب فتخصيصهم بالتقسيم هنا منظور فيه إلى ما اختصوا به من أحوال النفاق، لأن التقاسيم في المقامات الخَطابية والمجادلات تعتمد اختلافاً مَّا في أحوال المقسّم، ولا يُعبأ فيها بدخول القسم في قسِيمه‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً‏}‏ هو في التقسيم كقوله‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 99‏]‏‏.‏ ومعنى ‏{‏يتخذ‏}‏ يَعُد ويجعل، لأن اتخذ من أخوات جعل‏.‏ والجعل يطلق بمعنى التغيير من حالة إلى حالة نحو جعلت الشقة برداً‏.‏ ويطلق بمعنى العد والحسبان نحو ‏{‏وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 91‏]‏ فكذلك ‏{‏يَتخذ‏}‏ هنا‏.‏

والمَغرم‏:‏ ما يدفع من المال قهراً وظُلماً، فهؤلاء الأعراب يؤتون الزكاة وينفقون في سبيل الله ويعُدون ذلك كالأتاوات المالية والرزايا يدفعونها تقية‏.‏ ومن هؤلاء من امتنعوا من إعطاء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قائلهم من طيء في زمن أبي بكر لما جاءهم الساعي لإحصاء زكاة الأنعام‏:‏

فَقُولاَ لهذا المرءِ ذُو جاءَ ساعياً *** هَلُمَّ فإن المَشْرفيَّ الفرائض

أي فرائض الزكاة هي السيف، أي يعطون الساعي ضربَ السيف بدلاً عن الزكاة‏.‏

والتربص‏:‏ الانتظار‏.‏ والدوائر‏:‏ جمع دائرة وهي تغير الحالة من استقامة إلى اختلال‏.‏ وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة‏}‏ في سورة العقود ‏(‏52‏)‏‏.‏

والباء للسببية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ وجُعل المجرور بالباء ضمير المخاطبين على تقدير مضاف‏.‏ والتقدير‏:‏ ويتربص بسبب حالتكم الدوائر عليكم لظهور أن الدوائر لا تكون سبباً لانتظارِ الانقلاب بل حالهم هي سبب تربصهم أن تنقلب عليهم الحال لأن حالتهم الحاضرة شديدة عليهم‏.‏

فالمعنى أنهم ينتظرون ضعفكم وهزيمتكم أو ينتظرون وفاة نبيكم فيظهرون ما هو كامن فيهم من الكفر‏.‏ وقد أنبأ الله بحالهم التي ظهرت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل الردة من العرب‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ دعاء عليهم وتحقير، ولذلك فُصلت‏.‏ والدعاء من الله على خلقه‏:‏ تكوين وتقدير مشوبٌ بإهانة لأنه لا يعجزه شيء فلا يحتاج إلى تمني ما يريده‏.‏ وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلعنة الله على الكافرين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏89‏)‏‏.‏

وقد كانت على الأعراب دائرة السوء إذ قاتلهم المسلمون في خلافة أبي بكر عام الردة وهزموهم فرجعوا خائبين‏.‏ وإضافة دائرة‏}‏ إلى ‏{‏السوء‏}‏ من الإضافة إلى الوصف اللازم كقولهم‏:‏ عِشاءُ الآخِرة‏.‏ إذ الدائرة لا تكون إلا في السوء‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ لو لم تضف الدائرة إلى السوء عُرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه‏.‏ ونظيره إضافة السوء إلى ذئب في قول الفرزدق‏:‏

فكنتَ كذئب السَّوء حين رأى دَماً *** بصاحبه يوماً أحال على الدم

إذ الذئب متمحض للسوء إذ لا خير فيه للناس‏.‏ والسَّوء بفتح السين المصدر، وبضمها الاسم‏.‏ وقد قرأ الجمهور بفتح السين‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحدهما بضم السين‏.‏ والمعنى واحد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله سميع عليم‏}‏ تذييل، أي سميع ما يتناجون به وما يدبرونه من الترصد، عليم بما يبطنونه ويقصدون إخفاءه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏99‏)‏‏}‏

هؤلاء هم المؤمنون من الأعراب وفَّاهم الله حقهم من الثناء عليهم، وهم أضداد الفريقين الآخَرين المذكورين في قوله‏:‏ ‏{‏الأعراب أشد كفراً ونفاقاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏ وقوله ‏{‏ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مَغرماً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏‏.‏ قيل‏:‏ هم بنو مُقَرّن من مزينة الذين نزل فيهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 92‏]‏ الآية كما تقدم‏.‏ ومن هؤلاء عبد الله ذو البجادين المزَني هو ابن مغفل‏.‏ والإنفاق هنا هو الإنفاق هناك‏.‏ وتقدم قريباً معنى ‏{‏يتخذ‏}‏‏.‏

و ‏{‏قربات‏}‏ بضم القاف وضم الراء‏:‏ جمع قربة بسكون الراء‏.‏ وهي تطلق بمعنى المصدر، أي القرب وهو المراد هنا، أي يتخذون ما ينفقون تقرباً عند الله‏.‏ وجَمْع قربات باعتبار تعدد الإنفاق، فكل إنفاق هو قربة عند الله لأنه يوجب زيادة القرب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيُّهم أقرب‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏‏.‏ ف ‏{‏قربات‏}‏ هنا مجاز مستعمل في رضى الله ورفع الدرجات في الجنة، فلذلك وصفت ب ‏{‏عند‏}‏ الدالة على مكان الدنو‏.‏ و‏(‏عند‏)‏ مجاز في التشريف والعناية، فإن الجنة تشبّه بدار الكرامة عند الله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 54، 55‏]‏‏.‏

و ‏{‏وصلوات الرسول‏}‏ دعواته‏.‏ وأصل الصلاة الدعاء‏.‏ وجمعت هنا لأن كل إنفاق يقدمونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بسببه دعوة، فبتكرر الإنفاق تتكرر الصلاة‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على كل من يأتيه بصدقته وإنفاقه امتثالاً لما أمره الله بقوله‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ وجاء في حديث ابن أبي أوفَى أنه لما جاء بصدقته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم صل على آل أبي أوْفَى»

ويجوز عطف ‏{‏صلوات الرسول‏}‏ على اسم الجلالة معمولاً ل ‏{‏عند‏}‏، أي يتخذون الإنفاق قربة عند صلوات الرسول، أي يجعلونه تقرباً كائناً في مكان الدنو من صلوات الرسول تشبيهاً للتسبب في الشيء بالاقتراب منه، أي يجعلون الإنفاق سبباً لدعاء الرسول لهم‏.‏ فظرف ‏(‏عند‏)‏ مستعمل في معنيين مجازيين‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏وصلوات الرسول‏}‏ عطفاً على ‏{‏قربات عند الله‏}‏، أي يتخذ ما ينفق دعوات الرسول‏.‏ أخبر عن الإنفاق باتخاذه دعوات الرسول لأنه يتوسل بالإنفاق إلى دعوات الرسول إذ أمر بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصل عليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ألا إنها قربة لهم‏}‏ مستأنفة مسوقة مساق البشارة لهم بقبول ما رجوه‏.‏ وافتتحت الجملة بحرف الاستفتاح للاهتمام بها ليعيها السامع، وبحرف التأكيد لتحقيق مضمونها، والضمير الواقع اسم ‏(‏إنَّ‏)‏ عائد إلى ما ‏(‏ينفق‏)‏ باعتبار النفقات‏.‏ واللام للاختصاص، أي هي قربة لهم، أي عند الله وعند صلوات الرسول‏.‏ وحذف ذلك لدلالة سابق الكلام عليه‏.‏ وتنكير ‏{‏قربة‏}‏ لعدم الداعي إلى التعريف، ولأن التنكير قد يفيد التعظيم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏سيدخلهم الله في رحمته‏}‏ واقعة موقع البيان لجملة ‏{‏إنها قربة لهم‏}‏، لأن القربة عند الله هي الدرجات العلى ورضوانه، وذلك من الرحمة‏.‏ والقربة عند صلوات الرسول صلى الله عليه وسلم إجابة صلاته‏.‏ والصلاة التي يدعو لهم طلب الرحمة، فمآل الأمرين هو إدخال الله إياهم في رحمته‏.‏ وأوثر فعل الإدخال هنا لأنه المناسب للكون في الجنة، إذ كثيراً ما يقال‏:‏ دخل الجنة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وادخلي جنتي‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ تذييل مناسب لما رجوه وما استجيب لهم‏.‏ وأثبت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الخبر، أي غفور لما مضى من كفرهم، رحيم بهم يفيض النعم عليهم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏قرْبة‏}‏ بسكون الراء، وقرأه ورش وحده بضم الراء لاتباع القاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

عُقِّب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينها في ذلك بذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الإيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذِي مُتطلب الصلاح حذوَهم، ولئلا يخلوَ تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحَواليها وبَواديها، عن ذكر أفضل الأقسام تنويهاً به‏.‏ وبهذا تم استقراء الفرق وأحوالها‏.‏

فالجملة عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 98‏]‏‏.‏

والمقصود بالسبق السبق في الإيمان، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخالصين، والكفار الصرحاء، والكفار المنافقين؛ فتعين أن يراد الذين سبقوا غيرهم من صنفهم، فالسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا بالإيمان قبل أن يهاجِر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا قومهم بالإيمان، وهم أهل العقبتين الأولى والثانية‏.‏

وقد اختلف المفسرون في تحديد المدة التي عندها ينتهي وصف السابقين من المهاجرين والأنصار معاً، فقال أبو موسى وابن المسيب وابن سيرين وقتادة‏:‏ من صلى القبلتين‏.‏ وقال عطاء‏:‏ من شهد بدراً‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ من أدركوا بيعة الرضوان‏.‏ وهذه الأقوال الثلاثة تعتبر الواو في قوله‏:‏ ‏{‏والأنصار‏}‏ للجمع في وصف السبق لأنه متحد بالنسبة إلى الفريقين، وهذا يخص المهاجرين‏.‏ وفي «أحكام ابن العربي» ما يشبه أنَّ رأيه أن السابقين أصحاب العقبتين، وذلك يخص الأنصار‏.‏ وعن الجبائي‏:‏ أن السابقين مَن أسلموا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏ ولعله اختيار منه إذ لم يسنده إلى قائل‏.‏

واختار ابن عطية أن السابقين هم من هاجر قبل أن تنقطع الهجرة، أي بفتح مكة، وهذا يَقصر وصفَ السبق على المهاجرين‏.‏ ولا يلاقي قراءة الجمهور بخفض ‏{‏الأنصار‏}‏‏.‏ و‏{‏من‏}‏ للتبعيض لا للبيان‏.‏

والأنصار‏:‏ جمع نصير، وهو الناصر‏.‏ والأنصار بهذا الجمع اسم غلب على الأوْس والخزرج الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعد وفاته وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان‏.‏ دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فيطلق على أولاد المنافقين منهم الذين نشأوا في الإسلام كولد ابن صياد‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏والأنصار‏}‏ بالخفض عطفاً على المهاجرين، فيكون وصف السابقين صفة للمهاجرين والأنصار‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏والأنصارُ‏}‏ بالرفع، فيكون عطفاً على وصف ‏{‏السابقون‏}‏ ويكون المقسَّم إلى سابقين وغيرهم خصوص المهاجرين‏.‏

والمراد بالذين اتبعوهم بقية المهاجرين وبقية الأنصار اتبعوهم في الإيمان، أي آمنوا بعد السابقين‏:‏ ممن آمنوا بعد فتح مكة ومن آمنوا من المنافقين بعد مدة‏.‏

والإحسان‏:‏ هو العمل الصالح‏.‏ والباء للملابسة‏.‏ وإنما قيد هذا الفريق خاصة لأن السابقين الأولين ما بعثهم على الإيمان إلا الإخلاص، فهم محسنون، وأما الذين اتبعوهم فمن بينهم من آمن اعتزازاً بالمسلمين حين صاروا أكثر أهل المدينة، فمنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد، مثل المؤلفة قلوبهم، فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقى بهم إلى الإيمان الكامل، وهم المذكورون مع المنافقين في قوله تعالى‏:‏

‏{‏لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60‏]‏ فإذا بلغوا رتبة الإحسان دخلوا في وعد الرضى من الله وإعداد الجنات‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏رضي الله عنهم‏}‏ خبر عن ‏{‏السابقون‏}‏‏.‏ وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي لقصد التقوي والتأكيد‏.‏ ورضَى الله عنهم عنايته بهم وإكرامه إياهم ودفاعه أعداءَهم، وأما رضاهم عنه فهو كناية عن كثرة إحسانه إليهم حتى رضيت نفوسهم لما أعطاهم ربهم‏.‏

والإعداد‏:‏ التهيئة‏.‏ وفيه إشعار بالعناية والكرامة‏.‏ وتقدم القول في معنى جري الأنهار‏.‏

وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها ‏(‏مِنْ‏)‏ مع ‏(‏تَحتِها‏)‏ في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف ‏(‏من‏)‏ معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، ومن فعل ‏(‏أعد‏)‏ المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه‏.‏

وثبتت ‏(‏مِن‏)‏ في مصحف مَكة، وهي قراءة ابن كثير المكي، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

كانت الأعراب الذين حول المدينة قد خلصوا للنبيء صلى الله عليه وسلم وأطاعوه وهم جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ولحيان، وعصية، فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن في هؤلاء منافقين لئلا يغتر بكل من يظهر له المودة‏.‏

وكانت المدينة قد خلص أهلها للنبيء صلى الله عليه وسلم وأطاعوه فأعلمه الله أن فيهم بقية مردوا على النفاق لأنه تأصل فيهم من وقت دخول الإسلام بينهم‏.‏

وتقديم المجرور للتنبيه على أنه خبر، لا نعت‏.‏ و‏(‏مِن‏)‏ في قوله ‏{‏وممن حولكم‏}‏ للتبعيض و‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الأعراب‏}‏ لبيان ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ومن أهل المدينة‏}‏ اسم بمعنى بعض‏.‏ و‏{‏مردوا‏}‏ وخبر عنه، أو تجعل ‏(‏مِن‏)‏ تبعيضية مؤذنة بمبعض محذوف، تقديره‏:‏ ومن أهل المدينة جماعة مردوا، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه‏}‏ في سورة النساء ‏(‏46‏)‏‏.‏ ومعنى مرد على الأمر مَرِن عليه ودَرِب به، ومنه الشيطان المارد، أي في الشيطنة‏.‏

وأشير بقوله‏:‏ لا تعلمهم نحن نعلمهم‏}‏ إلى أن هذا الفل الباقي من المنافقين قد أراد الله الاستيثار بعلمه ولم يُطلع عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما أطلعه على كثير من المنافقين من قبلُ‏.‏ وإنما أعلمه بوجودهم على الإجمال لئلا يغتر بهم المسلمُون، فالمقصود هو قوله‏:‏ ‏{‏لا تعلمهم‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏نحن نعلمهم‏}‏ مستأنفة‏.‏ والخبر مستعمل في الوعيد، كقوله‏:‏ ‏{‏وسيرى الله عملكم ورسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 94‏]‏، وإلا فإن الحكم معلوم للمخاطب فلا يحتاج إلى الإخبار به‏.‏ وفيه إشارة إلى عدم الفائدة للرسول صلى الله عليه وسلم في علمه بهم، فإن علم الله بهم كاف‏.‏ وفيه أيضاً تمهيد لقوله بعده ‏{‏سنعذبهم مرتين‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏سنعذبهم مرتين‏}‏ استيناف بياني للجواب عن سؤال يثيره قوله‏:‏ ‏{‏نحن نعلمهم‏}‏، وهو أن يسأل سائل عن أثر كون الله تعالى يعلمهم‏.‏ فأعلم أنه سيعذبهم على نفاقهم ولا يفلتهم منه عدمُ علم الرسول عليه الصلاة والسلام بهم‏.‏ والعذاب الموصوف بمرتين عذاب في الدنيا لقوله بعده ‏{‏ثم يردون إلى عذاب عظيم‏}‏‏.‏

وقد تحير المفسرون في تعيين المراد من المرتين‏.‏ وحملوه كلهم على حقيقة العدد‏.‏ وذكروا وجوهاً لا ينشرح لها الصدر‏.‏ والظاهر عندي أن العدد مستعمل لمجرد قصد التكرير المفيد للتأكيد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ارجع البصر كرتين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏ أي تأمل تأملاً متكرراً‏.‏ ومنه قول العرب‏:‏ لبيك وسعديك، فاسم التثنية نائب مناب إعادة اللفظ‏.‏ والمعنى‏:‏ سنعذبهم عذاباً شديداً متكرراً مضاعفاً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يضاعَف لها العذاب ضعفين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وهذا التكرر تختلف أعداده باختلاف أحوال المنافقين واختلاف أزمان عذابهم‏.‏

والعذاب العظيم‏:‏ هو عذاب جهنم في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

الأظهر أن جملة‏:‏ ‏{‏وءاخرون اعترفوا‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وممن حولكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏، أي وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة آخرون أذْنبوا بالتخلف فاعترفوا ‏{‏اعترفوا بذنوبهم‏}‏ بذنوبهم بالتقصير‏.‏ فقوله‏:‏ إيجاز لأنه يدل على أنهم أذنبوا واعترفوا بذنوبهم ولم يكونوا منافقين لأن التعبير بالذنوب بصيغة الجمع يقتضي أنها أعمال سيئة في حالة الإيمان، وكذلك التعبير عن ارتكاب الذنوب بخلط العمل الصالح بالسيّئ‏.‏

وكان من هؤلاء جماعة منهم الجِد بن قيس، وكردم، وأرس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام، ومرداس، وأبو قيس، وأبو لُبابة في عشرة نفر اعترفوا بذنبهم في التخلف عن غزوة تبوك وتابوا إلى الله وربطوا أنفسهم في سوارى المسجد النبوي أياماً حتى نزلت هذه الآية في توبة الله عليهم‏.‏

والاعتراف‏:‏ افتعال من عَرف‏.‏ وهو للمبالغة في المعرفة، ولذلك صار بمعنى الإقرار بالشيء وترك إنكاره، فالاعتراف بالذنب كناية عن التوبة منه، لأن الإقرار بالذنب الفائت إنما يكون عند الندم والعزم على عدم العود إليه، ولا يُتصور فيه الإقلاع الذي هو من أركان التوبة لأنه ذنب مضى، ولكن يشترط فيه العزم على أن لا يعود‏.‏

وخلطهم العمل الصالح والسيّئ هو خلطهم حسنات أعمالهم بسيئات التخلف عن الغزو وعدم الإنفاق على الجيش‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً‏}‏ جاء ذكر الشيئين المختلطين بالعطف بالواو على اعتبار استوائهما في وقوع فعل الخلط عليهما‏.‏ ويقال‏:‏ خلط كذا بكذا على اعتبار أحد الشيئين المختلطين متلابسين بالخلط، والتركيبان متساويان في المعنى، ولكن العطف بالواو أوضح وأحسن فهو أفصح‏.‏

وعسى‏:‏ فعل رجاء‏.‏ وهي من كلام الله تعالى المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهي كناية عن وقوع المرجو، وأن الله قد تاب عليهم؛ ولكن ذكر فعل الرجاء يستتبع معنى اختيار المتكلم في وقوع الشيء وعدم وقوعه‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏أن يتوب عليهم‏}‏ أي يقبل توبتهم، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏37‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ إن الله غفور رحيم‏}‏ تذييل مناسب للمقام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

لما كان من شرط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما فات وكان التخلف عن الغزو مشتملاً على أمرين هما عدم المشاركة في الجهاد، وعدم إنفاق المال في الجهاد، جاء في هذه الآية إرشاد لطريق تداركهم ما يُمكن تَدَارُكه مما فات وهو نفع المسلمين بالمال، فالانفاقُ العظيم على غزوة تُبوك استنفد المال المعد لنوائب المسلمين، فإذا أخذ من المخلفين شيء من المال انجبر به بعض الثلم الذي حلّ بمال المسلمين‏.‏

فهذا وجه مناسبة ذكر هذه الآية عقب التي قبلها‏.‏ وقد روي أن الذين اعترفوا بذنوبهم قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك خذها فتصدق بها وطهرنا واستغفر لنا، فقال لهم‏:‏ لم أومر بأن آخذ من أموالكم‏.‏ حتى نزلت هذه الآية فأخذ منهم النبي صلى الله عليه وسلم صدقاتهم، فالضمير عائد على آخرين اعترفوا بذنوبهم‏.‏

والتاء في ‏{‏تطهّرهم‏}‏ تحتمل أن تكون تاء الخطاب نظراً لقوله‏:‏ ‏{‏خذ‏}‏، وأن تكون تاء الغائبة عائدة إلى الصدقة‏.‏ وأيّاماً كان فالآية دالة على أن الصدقة تطهر وتزكي‏.‏

والتزكية‏:‏ جعل الشيء زكياً، أي كثير الخيرات‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏تطهرهم‏}‏ إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تزكيهم‏}‏ إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات‏.‏ ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية‏.‏ فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم‏.‏

والصلاة عليهم‏:‏ الدعاء لهم‏.‏ وتقدم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصلوات الرسول‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 99‏]‏‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إذا جاءه أحد بصدقته يقول‏:‏ اللهم صل على آل فلان‏.‏ كما ورد في حديث عبد الله بن أبي أوفى يجمع النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه في هذا الشأن بين معنى الصلاة وبين لفظها فكان يُسْأل من الله تعالى أن يصلي على المتصدِق‏.‏ والصلاة من الله الرحمة، ومن النبي الدعاء‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن صلواتك سكن لهم‏}‏ تعليل للأمر بالصلاة عليهم بأن دعاءه سكن لهم، أي سبب سَكَن لهم، أي خير‏.‏ فإطلاق السكن على هذا الدعاء مجاز مرسل‏.‏

والسكن‏:‏ بفتحتين ما يُسكَن إليه، أي يُطمأن إليه ويُرتاح به‏.‏ وهو مشتق من السكون بالمعنى المجازي، وهو سكون النفس، أي سلامتها من الخوف ونحوه، لأن الخوف يوجب كثرة الحذر واضطراب الرأي فتكون النفس كأنها غير مستقرة، ولذلك سمي ذلك قلقاً لأن القلق كثرة التحرك‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وجاعل الليل سكناً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏والله جعل لكم من بيوتكم سكَناً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 80‏]‏، ومن أسماء الزوجة السكن، أو لأن دعاءه لهم يزيد نفوسهم صلاحاً وسكوناً إلى الصالحات لأن المعصية تردد واضطراب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فهم في ريبهم يترددون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 45‏]‏، والطاعة اطمئنان ويقين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏

‏[‏الرعد‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله سميع عليم‏}‏ تذييل مناسب للأمر بالدعاء لهم‏.‏ والمراد بالسميع هنا المجيب للدعاء‏.‏ وذكره للإشارة إلى قبول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ففيه إيماء إلى التنويه بدعائه‏.‏ وذكر العليم إيماء إلى أنه ما أمره بالدعاء لهم إلا لأن في دعائه لهم خيراً عظيماً وصلاحاً في الأمور‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏صلواتِك‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏ وقرأه حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏صلاتك‏}‏ بصيغة الإفراد‏.‏ والقراءتان سواء، لأن المقصود جنس صلاته عليه الصلاة والسلام‏.‏ فمن قرأ بالجمع أفاد جميع أفراد الجنس بالمطابقة لأن الجمع المعرف بالإضافة يعم، ومن قرأ بالإفراد فهمت أفراد الجنس بالالتزام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏‏}‏

إن كان الذين اعترفوا بذنوبهم وعرضوا أموالهم للصدقة قد بقي في نفوسهم اضطراب من خوف أن لا تكون توبتهم مقبولة وأن لا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد رضي عنهم وكان قوله‏:‏ ‏{‏إن صلواتك سكن لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ مشيراً إلى ذلك، وذلك الذي يشعر به اقتران قبول التوبة وقبول الصدقات هنا ليناظر قوله‏:‏ ‏{‏اعترفوا بذنوبهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 102‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ كانت جملة‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة‏}‏ استينافاً بيانياً ناشئاً عن التعليل بقوله‏:‏ ‏{‏إن صلواتك سكن لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏، لأنه يثير سؤال من يسأل عن موجب اضطراب نفوسهم بعد أن تابوا، فيكون الاستفهام تقريراً مشوباً بتعجيببٍ من ترددهم في قبول توبتهم‏.‏ والمقصود منه التذكير بأمر معلوم لأنهم جروا على حال نسيانه، ويكون ضمير ‏{‏يعلموا‏}‏ عائداً إلى الذين اعترفوا بذنوبهم‏.‏

وإن كان الذين اعترفوا بذنوبهم لم يخطر ببالهم شك في قبول توبتهم وكان قوله‏:‏ ‏{‏إن صلواتك سكن لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ مجرد إرشاد من الله لرسوله إلى حكمة دعائه لهم بأن دعاءه يصلح نفوسهم ويقوي إيمانهم كان الكلام عليهم قد تم عند قوله‏:‏ ‏{‏والله سميع عليم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏، وكانت جملة‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً على طريقة الاستطراد لترغيب أمثال أولئك في التوبة ممن تأخروا عنها، وكان ضمير ‏{‏ألم يعلموا‏}‏ عائداً إلى ما هو معلوم من مقام التنزيل وهو الكلام على أحوال الأمة، وكان الاستفهام إنكارياً‏.‏

ونُزل جميعهم منزلة من لا يعلم قبول التوبة، لأن حالهم حال من لا يعلم ذلك سواء في ذلك من يعلم قبولها ومن لا يعلم حقيقةً، وكان الكلام أيضاً مسوقاً للتحْضيض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأن الله هو التواب الرحيم‏}‏ عطف على ‏{‏أن الله هو يقبل التوبة‏}‏، تنبيهاً على أنه كما يجب العلم بأن الله يفعل ذلك يجب العلم بأن من صفاته العُلى أنه التواب الرحيم، أي الموصوف بالإكثار من قبول توبة التائبين، الرحيم لعباده، ولا شك أن قبول التوبة من الرحمة فتعقيب ‏{‏التواب‏}‏ ب ‏{‏الرحيم‏}‏ في غاية المناسبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 104‏]‏ الذي هو في قوة إخبارهم بأن الله يقبل التوبة وقل لهم اعملوا، أي بعد قبول التوبة، فإن التوبة إنما ترفع المؤاخذة بما مضى فوجب على المؤمن الراغب في الكمال بعد توبته أن يزيد من الأعمال الصالحة ليجبر ما فاته من الأوقات التي كانت حقيقة بأن يعمرها بالحسنات فعمرها بالسيئات فإذا وردت عليها التوبة زالت السيئات وأصبحت تلك المدة فارغة من العمل الصالح، فلذلك أمروا بالعمل عقب الإعلام بقبول توبتهم لأنهم لما قُبلت توبتهم كان حقاً عليهم أن يدلوا على صدق توبتهم وفرط رغبتهم في الارتقاء إلى مراتب الكمال حتى يَلحقوا بالذين سبقوهم، فهذا هو المقصود، ولذلك كان حذف مفعول ‏{‏اعملوا‏}‏ لأجل التعويل على القرينة، ولأن الأمر من الله لا يكون بعمل غير صالح‏.‏ والمراد بالعمل ما يشمل العمل النفساني من الاعتقاد والنية‏.‏ وإطلاق العمل على ما يشمل ذلك تغليب‏.‏

وتفريع ‏{‏فسيرى الله عملكم‏}‏ زيادة في التحْضيض‏.‏ وفيه تحذير من التقصير أو من ارتكاب المعاصي لأن كون عملهم بمرأى من الله مما يبعث على جعله يرضي الله تعالى‏.‏ وذلك تذكير لهم باطلاع الله تعالى بعلمه على جميع الكائنات‏.‏ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الإحسان‏:‏ «هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»

وعطف ‏{‏ورسوله‏}‏ على اسم الجلالة لأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ عن الله وهو الذي يتولى معاملتهم على حسب أعمالهم‏.‏

وعطف ‏{‏المؤمنون‏}‏ أيضاً لأنهم شهداء الله في أرضه ولأن هؤلاء لما تابوا قد رجعوا إلى حضيرة جماعة الصحابة فإن عملوا مثلهم كانوا بمحل الكرامة منهم وإلا كانوا ملحوظين منهم بعين الغضب والإنكار‏.‏ وذلك مما يحذره كل أحد هو من قوم يرمقونه شزراً ويرونه قد جاء نكراً‏.‏

والرؤية المسندة إلى الله تعالى رؤية مجازية‏.‏ وهي تعلق العلم بالواقعات سواء كانت ذواتتٍ مبصَراتتٍ أم كانت أحداثاً مسموعات ومعاني مدرَكات، وكذلك الرؤية المسندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين المعنى المجزى لقوله‏:‏ ‏{‏عملكم‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وستردون إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏ من جملة المقول‏.‏ وهو وعد ووعيد معاً على حسب الأعمال، ولذلك جاء فيه ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ وقد تقدم القول في نظيره آنفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

هذا فريق آخر عطف خبره على خبر الفرق الآخرين‏.‏ والمراد بهؤلاء من بقي من المخلَّفين لم يتب الله عليه، وكان أمرهم موقوفاً إلى أن يقضي الله بما يشاء‏.‏ وهؤلاء نفر ثلاثة، هم‏:‏ كعب بن مالك، وهِلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، وثلاثتهم قد تخلفوا عن غزوة تبوك‏.‏ ولم يكن تخلفهم نفاقاً ولا كراهية للجهاد ولكنهم شُغلوا عند خروج الجيش وهم يحسبون أنهم يلحقونه وانقضت الأيام وأيسوا من اللحاق‏.‏ وسأل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك‏.‏ فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم أتوه وصَدَقوه، فلم يكلمهم، ونهى المسلمين عن كلامهم ومخالطتهم، وأمرهم باعتزال نسائهم، فامتثلوا وبقُوا كذلك خمسين ليلة، فهم في تلك المدة مُرْجَون لأمر الله‏.‏ وفي تلك المدة نزلت هذه الآية ‏{‏ثم تاب الله عليهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وأنزل فيهم قوله‏:‏ ‏{‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله ‏{‏وكونوا مع الصادقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 117 119‏]‏‏.‏

وعن كعب بن مالك في قصته هذه حديث طويل أغر في «صحيح البخاري»‏.‏ على التوبة والتنبيه إلى فتح بابها‏.‏ وقد جوز المفسرون عود ضمير ‏{‏ألم يعلموا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 104‏]‏ إلى الفريقين اللذين أشرنا إليهما‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هو يقبل التوبة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 104‏]‏ ‏(‏هو‏)‏ ضمير فصل مفيد لتأكيد الخبر‏.‏ و‏{‏عن عباده‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 104‏]‏ متعلقة ب ‏{‏يقبل‏}‏ لتضمنه معنى يتجاوز، إشارة إلى أن قبول التوبة هو التجاوز عن المعاصي المتوب منها‏.‏

فكأنه قيل‏:‏ يقبل التوبة ويتجاوز عن عباده‏.‏ وكان حق تعدية فعل ‏(‏يقبل‏)‏ أن يكون بحرف ‏(‏من‏)‏‏.‏ ونقل الفخر عن القاضي عبد الجبار أنه قال‏:‏ لعل ‏(‏عن‏)‏ أبلغ لأنه ينبئ عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت‏.‏ ولم يبين وجه ذلك، وأحسب أنه يريد ما أشرنا إليه من تضمين معنى التجاوز‏.‏

وجيء بالخبر في صورة كلية لأن المقصود تعميم الخطاب، فالمراد بِ ‏{‏عباده‏}‏ جميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن التوبة من الكفر هي الإيمان‏.‏

والآية دليل على قبول التوبة قطعاً إذا كانت توبة صحيحة لأن الله أخبر بذلك في غير ما آية‏.‏ وهذا متفق عليه بالنسبة لتوبة الكافر عن كفره لأن الأدلة بلغت مبلغ التواتر بالقول والعمل‏.‏ ومختلفٌ فيه بالنسبة لتوبة المؤمن من المعاصي لأن أدلته لا تعدو أن تكون دلالة ظواهر؛ فقال المحققون من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين‏.‏ مقبولة قطعاً‏.‏ ونقل عن الأشعري وهو قول المعتزلة واختاره ابن عطية وأبوه وهو الحق‏.‏ وادعى الإمام في «المعالم» الإجماعَ عليه وهي أولى بالقبول‏.‏ وقال الباقلاني وإمام الحرمين والمازري‏:‏ إنما يقطع بقبول توبة طائفة غير معينة، يعنون لأن أدلة قبول جنس التوبة على الجملة متكاثرة متواترة بلغت مبلغ القطع ولا يقطع بقبول توبة تائب بخصوصه‏.‏ وكأنَّ خلاف هؤلاء يرجع إلى عدم القطع بأن التائب المعين تاب توبة نصوحاً‏.‏

وفي هذا نظر لأن الخلاف في توبة مستوفيةٍ أركانها وشروطها‏.‏ وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة‏}‏ الآية في سورة النساء ‏(‏17‏)‏‏.‏

والأخذ في قوله‏:‏ ‏{‏ويأخذ الصدقات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 104‏]‏ مستعمل في معنى القبول، لظهور أن الله لا يأخذ الصدقة أخذاً حقيقياً، فهو مستعار للقبول والجزاء على الصدقة‏.‏

وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف ‏{‏مرجَوْن‏}‏ بسكون الواو بدون همز على أنه اسم مفعول من أرجَاه بالألف، وهو مخفف أرجأه بالهمز إذا أخره، فيقال في مضارعه المخفف‏:‏ أرجيته بالياء، كقوله‏:‏ ‏{‏تُرجي من تشاء منهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏ بالياء، فأصل مُرجَون مُرْجَيُون‏.‏ وقرأ البقية ‏{‏مُرجَئُون‏}‏ بهمز بعد الجيم على أصل الفعل كما قرئ ‏{‏ترْجيءُ من تشاء‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏‏.‏ واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لأمر الله‏}‏ للتعليل، أي مؤخرون لأجل أمر الله في شأنهم‏.‏ وفيه حذف مضاف، تقديره‏:‏ لأجل انتظار أمر الله في شأنهم لأن التأخير مشعر بانتظار شيء‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إما يعذبهم وإما يتوب عليهم‏}‏ بيان لجملة‏:‏ ‏{‏وآخرون مُرجَون‏}‏ باعتبار متعلق خبرها وهو ‏{‏لأمر الله‏}‏، أي أمر الله الذي هو إما تعذيبهم، وإما توبته عليهم‏.‏ ويفهم من قوله ‏{‏يتوب عليهم‏}‏ أنهم تابوا‏.‏

والتعذيب مفيد عدم قبول توبتهم حينئذٍ لأن التعذيب لا يكون إلا عن ذنب كبير‏.‏ وذنبهم هو التخلف عن النفير العام، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ الآية‏.‏ وقبول التوبة عما مضى فضل من الله‏.‏

و ‏{‏إما‏}‏ حرف يدل على أحد شيئين أو أشياء‏.‏ ومعناها قريب من معنى ‏(‏أو‏)‏ التي للتخيير، إلا أن ‏(‏إما‏)‏ تدخل على كلا الاسمين المخير بين مدلوليهما وتحتاج إلى أن تتلى بالواو، و‏(‏أو‏)‏ لا تدخل إلا على ثاني الاسمين‏.‏ وكان التساوي بين الأمرين مع ‏(‏إما‏)‏ أظهر منه مع ‏(‏أو‏)‏ لأن ‏(‏أو‏)‏ تشعر بأن الاسم المعطوف عليه مقصود ابتداء‏.‏ وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏115‏)‏‏.‏

ويعذبهم ويتوب عليهم‏}‏ فعلان في معنى المصدر حذفت ‏(‏أن‏)‏ المصدرية منهما فارتفعا كارتفاع قولهم‏:‏ «تسمعُ بالمعيدي خير من أن تراه» لأن موقع ما بعد ‏(‏إما‏)‏ للاسم نحو ‏{‏إما العذاب وإما الساعة‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 75‏]‏ و‏{‏وإما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 86‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ تذييل مناسب لإبهام أمرهم على الناس، أي والله عليم بما يليق بهم من الأمرين، محكم تقديره حين تتعلق به إرادته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 108‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏107‏)‏ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

هذا كلام على فريق آخر من المؤاخَذين بأعمال عملوها غضب الله عليهم من أجلها، وهم فريق من المنافقين بنوا مسجداً حول قباء لغرض سيء لينصرف إخوانهم عن مسجد المؤمنين وينفردوا معهم بمسجد يخصهم‏.‏

فالجملة مستأنفة ابتدائية على قراءة من قرأها غيرَ مفتتحة بواو العطف، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر‏.‏ ونكتة الاستئناف هنا التنبيه على الاختلاف بين حال المراد بها وبين حال المراد بالجملة التي قبلها وهم المرجون لأمر الله‏.‏ وقرأها البقية بواو العطف في أولها، فتكون معطوفةً على التي قبلها لأنها مثلها في ذكر فريق آخر مثل مَن ذكر فيما قبلها‏.‏ وعلى كلتا القراءتين فالكلام جملة أثر جملة وليس ما بعد الواو عطف مفرد‏.‏

وقوله ‏{‏الذين‏}‏ مبتدأ وخبره جملة‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه أبداً‏}‏ كما قاله الكسائي‏.‏ والرابط هو الضمير المجرور من قوله‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه‏}‏ لأن ذلك الضمير عائد إلى المسجد وهو مفعولُ صلةِ الموصول فهو سببي للمبتدأ، إذ التقدير‏:‏ لا تقم في مسجد اتخذوه ضراراً، أو في مسجدهم، كما قدره الكسائي‏.‏ ومن أعربوا ‏{‏أفمن أسس بنيانه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 109‏]‏ خبراً فقد بعدوا عن المعنى‏.‏

والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجداً قُرب مسجد قُباء لقصد الضرار، وهم طائفة من بني غُنْم بن عَوف وبني سالم بن عَوف من أهل العوالي‏.‏ كانوا اثني عشر رجلاً سماهم ابن عطية‏.‏ وكان سبب بنائهم إيَّاه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو، ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين‏.‏ ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزَّب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة‏.‏ ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف، فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر، وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجداً ليخلصوا فيه بأنفسهم، ويعِدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة‏.‏ فانتدب لذلك اثنا عشر رجلاً من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعَة بن زيد وغيرهم، فبنوه بجانب مسجد قباء، وذلك قُبيل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تَبوك‏.‏ وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه‏.‏ فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية، وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيراً‏.‏

والضرار‏:‏ مصدر ضار مبالغة في ضر، أي ضِراراً لأهل الإسلام‏.‏ والتفريق بين المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غُنم وبني سالم عن قباء‏.‏

والإرصاد‏:‏ التهيئة‏.‏ والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب، لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازنَ، فقوله‏:‏ ‏{‏من قبلُ‏}‏ إشارة إلى ذلك، أي من قبل بناء المسجد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى‏}‏ معترضة، أو في موضع الحال‏.‏ والحسنى‏:‏ الخير‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله يشهد إنهم لكاذبون‏}‏ معترضة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه أبداً‏}‏ هي الخبر عن اسم الموصول كما قدمْنا‏.‏ والمراد بالقيام الصلاة لأن أولها قيام‏.‏

ووجه النهي عن الصلاة فيه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه تكسبه يُمْناً وبَركة فلا يرى المسلمون لمسجد قباء مزية عليه فيقتصر بنو غُنم وبنو سالم على الصلاة فيه لقربه من منازلهم، وبذلك يحصل غرض المنافقين من وضعه للتفريق بين جماعة المسلمين‏.‏ فلما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه مفضية إلى ترويج مقصدهم الفاسد صار ذلك وسيلة إلى مفسدة فتوجه النهي إليه‏.‏ وهذا لا يطلع على مثله إلا الله تعالى‏.‏ وهذا النهي يعم جميع المسلمين لأنه لما نهي النبي عن الصلاة فيه علم أن الله سلب عنه وصف المسجدية فصارت الصلاة فيه باطلة لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بنَ ياسر ووحشياً مولى المُطعم بن عدي ومالكَ بن الدخشم ومعنَ بن عدي فقال‏:‏ «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه»، ففعلوا‏.‏ وتحريقه تحريق الأعواد التي يتخذ منها السَّقف، والجذوععِ التي تجعل له أعمدة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه‏}‏ احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادةٍ في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعَوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قُباء، لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه، وهذا أدب نفساني عظيم‏.‏

وفيه أيضاً دفع مكيدةِ المنافقين أن يطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه دعي إلى الصلاة في مسجدهم فامتنع، فقوله‏:‏ ‏{‏أحقُّ‏}‏ وإن كان اسم تفضيل فهو مسلوب المفاضلة لأن النهي عن صلاته في مسجد الضرار أزال كونه حقيقاً بصلاته فيه أصلاً‏.‏

ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين بمُجازاتهم ظاهراً في دعوتهم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقاً بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه، فيعرف من وصفه بأنه ‏{‏أسس على التقوى‏}‏ أن هذا أسس على ضدها‏.‏

وثبت في «صحيح مسلم» وغيره عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن المراد من المسجد الذي أسس على التقوى في هذه الآية فقال‏:‏ «هو مسجدكم هذا»‏.‏ يعني المسجد النبوي بالمدينة‏.‏ وثبت في الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن الرجال الذين يحبون أن يتطهروا بأنهم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء‏.‏ وذلك يقتضي أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم هو مسجدهم، لقوله‏:‏ ‏{‏فيه رجالٌ‏}‏‏.‏

ووجه الجمع بين هذين عندي أن يكون المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم‏}‏ المسجد الذي هذه صفته لا مسجداً واحداً معيناً، فيكون هذا الوصف كلياً انحصر في فَردين المسجدِ النبوي ومسجدِ قُباء، فأيهما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجدِ الضرار كانَ ذلك أحق وأجدر، فيحصل النجاء من حظ الشيطان في الامتناع من الصلاة في مَسجدهم، ومن مطاعنهم أيضاً، ويحصل الجمع بين الحديثين الصحيحين‏.‏ وقد كان قيام الرسول في المسجد النبوي هو دأبَه‏.‏

ومن جليل المنازع من هذه الآية ما فيها من حجة لصحة آراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جعلوا العام الذي كان فيه يوم الهجرة مبدأ التاريخ في الإسلام‏.‏ وذلك ما انتزعه السهيلي في «الروض الأنف» في فصل تأسيس مسجدِ قباء إذ قال‏:‏ «وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏من أول يوم‏}‏ ‏(‏وقد علم أنه ليس أولَ الأيام كلها ولا أضافَه إلى شيء في اللفظ الظاهر فيه‏)‏ من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم مع عمر حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عَام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام وأمِن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوافق هذا ظاهر التنزيل»‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا‏}‏ ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسجد قباء‏.‏ وجاء الضمير مفرداً مراعاة للفظ ‏(‏مَسجد‏)‏ الذي هو جنس، كالإفراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتؤمنون بالكتاب كله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏‏.‏ وفيه تعريض بأن أهل مسجد الضرار ليسوا كذلك‏.‏

وقد كان المؤمنون من الأنصار يجمعون بين الاستجمار بالأحجار والغسل بالماء كما دل عليه حديث رواه الدارقطني عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ‏{‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏ يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطُهور فما طُهوركم‏؟‏ قالوا‏:‏ إنَّ أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء‏.‏ قال‏:‏ هو ذلك فعليكموه ‏"‏، فهذا يعم الأنصار كلهم‏.‏ ولا يعارضه حديث أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء عن طهارتهم لأن أهل قباء هم أيضاً من الأنصار، فسؤاله إياهم لتحقق اطراد هذا التطهر في قبائل الأنصار‏.‏

وأطلقت المحبة في قوله‏:‏ ‏{‏يحبون‏}‏ كناية عن عمل الشيء المحبوب لأن الذي يحب شيئاً ممكناً يعمله لا محالة‏.‏ فقصد التنويه بهم بأنهم يتطهرون تقرباً إلى الله بالطهارة وإرضاء لمحبة نفوسهم إياها، بحيث صارت الطهارة خُلقاً لهم فلو لم تجب عليهم لفعلوها من تلقاء أنفسهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله يحب المطهرين‏}‏ تذييل‏.‏ وفيه إشارة إلى أن نفوسهم وافقت خلقاً يحبه الله تعالى‏.‏ وكفى بذلك تنويهاً بزكاء أنفسهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏ لزيادة بيان أحقية المسجد المؤسَّس على التقوى بالصلاة فيه‏.‏

وبيان أن تفضيل ذلك المسجد في أنه حقيق بالصلاة فيه تفضيل مسلوب المشاركة لأن مسجد الضرار ليس حقيقاً بالصلاة فيه بعد النهي، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لو وقعت لأكسبت مَقصدَ وَاضعيه رواجاً بين الأمة وهو غرضهم التفريق بين جماعات المسلمين كما تقدم‏.‏

والفاء مؤخرة عن همزة الاستفهام لأحقية حرف الاستفهام بالتصدير‏.‏ والاستفهام تقريري‏.‏

والتأسيس‏:‏ بناءُ الأساس، وهو قاعدة الجدار المبني من حجر وطين أو جص‏.‏

والبنيان في الأصل مصدر بوزن الغُفران والكفران، اسم لإقامة البيت ووضعه سواء كان البيت من أثواب أم من أدم أم كان من حجر وطين فكل ذلك بناء‏.‏ ويطلق البنيان على المبني من الحجر والطين خاصة‏.‏ وهو هنا مطلق على المفعول، أي المبني‏.‏ وما صدق ‏(‏من‏)‏ صاحبُ البناء ومستحقه، فإضافة البنيان إلى ضمير ‏(‏مَن‏)‏ إضافة على معنى اللام‏.‏ وشُبه القصد الذي جعل البناء لأجله بأساس البناء، فاستعير له فعل ‏{‏أسس‏}‏ في الموضعين‏.‏

ولما كان من شأن الأساس أن تطلب له صلابة الأرض لدوامه جعلت التقوى في القصد الذي بني له أحد المسجدين، فشبهت التقوى بما يرتكز عليه الأساس على طريقة المكنية، ورُمز إلى المشبه به المحذوف بشيء من ملائماته وهو حرف الاستعلاء‏.‏ وفُهم أن هذا المشبه به شيء راسخ ثابت بطريق المقابلة في تشبيه الضد بما أسس على شفاً جُرُف هار، وذلك بأن شبه المقصد الفاسد بالبناء بجرْف جُرف منهار في عدم ثبات ما يقام عليه من الأساس بله البناء على طريقة الاستعارة التصريحية‏.‏ وحرف الاستعلاء ترشيح‏.‏

وفرع على هذه الاستعارة الأخيرة تمثيل حالة هدمه في الدنيا وإفضائه ببانيه إلى جهنم في الآخرة بانهيار البناء المُؤسس على شفَا جُرف هارَ بساكنه في هوّة‏.‏ وجعل الانهيار به إلى نار جهنم إفضاء إلى الغاية من التشبيه‏.‏ فالهيئة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول وكذلك الهيئة المشبه بها‏.‏ ومقصود أن البنيان الأول حصل منه غرض بانيه لأن غرض الباني دوام ما بناه‏.‏ فهم لما بنوه لقصد التقوى ورضى الله تعالى ولم يُذكر ما يقتضي خيبتهم فيه كما ذُكر في مقابله عُلم أنهم قد اتقوا الله بذلك وأرضوه ففازوا بالجنة، كما دلت عليه المقابلة، وأن البنيان الثاني لم يَحصل غرضُ بانيه وهو الضرار والتفريق فخابوا فيما قصدوه فلم يثبت المقصد، وكان عدم ثباته مفضياً بهم إلى النار كما يفضي البناء المنهار بساكنه إلى الهلاك‏.‏

والشَّفا بفتح الشين وبالقصر‏:‏ حرف البئر وحرف الحفرة‏.‏

والجُرف بضمتين‏:‏ جانب الوادي وجانب الهُوة‏.‏

وهارٍ‏:‏ اسم مشتق من هَارَ البناءُ إذا تصدع، فقيل‏:‏ أصله هَوَر بفتحتين كما قالوا خَلَف في خالف‏.‏ وليست الألف التي بعد الهاء ألف فاعل بل هي عين الكلمة منقلبة عن الواو لأن الواو متحركة وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، وقيل هو اسم فاعل من هار البناء وأصل وزنه هاور، فوقع فيه قلب بين عينه ولامه تخفيفاً‏.‏ وقد وقع ذلك في ألفاظ كثيرة من اللغة مثل قولهم‏:‏ شاكي السلاح، أصله شائِك‏.‏ ورجل صاتٌ عالي الصوت أصله صائتٌ‏.‏ ويدل لذلك قولهم‏:‏ انهار ولم يقولوا انهرى‏.‏ وهَرٍ مبالغةً في هَار‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وحدهما فعل ‏{‏أسس‏}‏ في الموضعين بصيغة البناء للمفعول ورفع ‏{‏بنيانُه‏}‏ في الموضعين‏.‏ وقرأها الباقون بالبناء للفاعل ونصب ‏{‏بنيانَه‏}‏ في الموضعين‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏جُرُف‏}‏ بضم الراء‏.‏ وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم وخلفٌ بسكون الراء‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ تذييل، وهو عام يشمل هؤلاء الظالمين الذين بنوا مسجد الضرار وغيرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏لا يزال بنيانهم‏}‏ يجوز أن تكون مستأنفة لتعدَاد مساوي مسجد الضرار بذكر سوءِ عواقبه بعد أن ذكرَ سوء الباعثثِ عليه وبعد أن ذكر سوء وقعه في الإسلام بأن نهى الله رسوله عن الصلاة فيه وأمرَه بهدمه، لأنه لما نهاه عن الصلاة فيه فقد صار المسلمون كلهم منهيين عن الصلاة فيه، فسلب عنه حكم المساجد، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه‏.‏ ويرجح هذا الوجه أنه لم يؤت بضمير المسجد أو البنيان بل جيء باسمه الظاهر‏.‏

ويجوز أن تكون خبراً ثانياً عن ‏{‏الذين اتخذوا مسجداً ضراراً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 107‏]‏ كأنه قيل‏:‏ لا تقم فيه ولا يزال ريبةً في قلوبهم، ويكون إظهار لفظ ‏{‏بنيانهم‏}‏ لزيادة إيضاحه‏.‏ والرابط هو ضمير ‏{‏قلوبهم‏}‏‏.‏

والمعنى أن ذلك المسجد لما بنوه لغرض فاسد فقد جعلهُ اللّهُ سبباً لبقاء النفاق في قلوبهم ما دامت قلوبهم في أجسادهم‏.‏

وجَعل البنيان ريبةً مبالغة كالوصف بالمصدر‏.‏ والمعنى أنه سبب للريبة في قلوبهم‏.‏ والريبة‏:‏ الشك، فإن النفاق شك في الدين، لأن أصحابه يترددون بين موالاة المسلمين والإخلاص للكافرين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن تقطع قلوبهم‏}‏ استثناء تهكمي‏.‏ وهو من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَم الخياط‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏، أي يبقى ريبة أبداً إلا أن تقطع قلوبهم منهم وما هي بمُقطعة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ تذييل مناسب لهذا الجعل العجيب والإحكام الرشيق‏.‏ وهو أن يكون ذلك البناء سببَ حسرة عليهم في الدنيا والآخرة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تُقطع‏}‏ بضم التاء‏.‏ وقرأه ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏تَقطَّعَ‏}‏ بفتح التاء على أن أصله تتقطع‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏إلى أن تقطع‏}‏ بحرف ‏(‏إلى‏)‏ التي للانتهاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏111‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي للتنويه بأهل غزوة تبوك وهم جيش العُسْرة، ليكون توطئة وتمهيداً لذكر التوبة على الذين تخلفوا عن الغزوة وكانوا صادقين في أيمانهم، وإنْبَاءِ الذين أضمروا الكفر نفاقاً بأنهم لا يتوب الله عليهم ولا يستغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمناسبة ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين الذين تسلسل الكلام عليهم ابتداءً من قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ الآيات، وما تولد على ذلك من ذكر مختلف أحوال المخلفين عن الجهاد واعتلالهم وما عقب ذلك من بناء مسجد الضرار‏.‏

وافتتحت الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر، المتضمنة على أنه لما كان فاتحة التحريض على الجهاد بصيغة الاستفهام الإنكاري وتمثيلهم بحال من يُستنهض لعمل فيتثاقل إلى الأرض في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ ناسب أن ينزل المؤمنون منزلة المتردد الطالب في كون جزاء الجهاد استحقاق الجنة‏.‏

وجيء بالمسند جملة فعلية لإفادتها معنى المضي إشارة إلى أن ذلك أمر قد استقر من قبل، كما سيأتي في قوله‏:‏ ‏{‏وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن‏}‏، وأنهم كالذين نسوه أو تناسوه حين لم يخفُوا إلى النفير الذي استنفروه إشارة إلى أن الوعد بذلك قديم متكرر معروف في الكتب السماوية‏.‏

والاشتراء‏:‏ مستعار للوعد بالجزاء عن الجهاد، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وعداً عليه حقاً‏}‏ بمشابهة الوعدِ الاشتراءَ في أنه إعطاء شيء مقابل بذل من الجانب الآخر‏.‏

ولما كان شأن الباء أن تدخل على الثمن في صِيغ الاشتراء أدخلت هنا في ‏{‏بأن لهم الجنة‏}‏ لمشابهة هذا الوعد الثمنَ‏.‏ وليس في هذا التركيب تمثيل إذ ليس ثمة هيئة مشبهة وأخرى مشبه بها‏.‏

والمراد بالمؤمنين في الأظهر أن يكون مؤمني هذه الأمة‏.‏ وهو المناسب لقوله بعد‏:‏ ‏{‏فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به‏}‏‏.‏

ويكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل‏}‏ ما جاء في التوراة والإنجيل من وصف أصحاب الرسول الذي يختِم الرسالة‏.‏ وهو ما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى قوله ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل إلى قوله ‏{‏ليغيظ بهم الكفار‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون جميع المؤمنين بالرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أنسب لقوله‏:‏ ‏{‏في التوراة والإنجيل‏}‏، وحينئذٍ فالمراد الذين أمروا منهم بالجهاد ومن أمروا بالصبر على اتباع الدين من أتباع دين المسيحية على وجهها الحق فإنهم صبروا على القتل والتعذيب‏.‏ فإطلاق المقاتلة في سبيل الله على صبرهم على القتل ونحوه مجاز، وبذلك يكون فعل ‏{‏يقاتلون‏}‏ مستعملاً في حقيقته ومجازه‏.‏

واللام في ‏{‏لهم الجنة‏}‏ للملك والاستحْقاق‏.‏

والمجرور مصدر، والتقدير‏:‏ بتحقيق تملكهم الجنة، وإنما لم يقل بالجنة لأن الثمن لما كان آجلاً كان هذا البيع من جنس السلم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يقاتلون في سبيل الله‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن اشتراء الأنفس والأموال لغرابته في الظاهر يثير سؤال من يقول‏:‏ كيف يبذلون أنفسهم وأموالهم‏؟‏ فكان جوابه ‏{‏يقاتلون في سبيل الله‏}‏ الخ‏.‏

قال الطيبي‏:‏ «فقوله ‏{‏يقاتلون‏}‏ بيان، لأن مكان التسليم هو المعركة، لأن هذا البيع سَلَم، ومن ثَم قيل ‏{‏بأن لهم الجنة‏}‏ ولم يقل بالجنة‏.‏ وأتي بالأمر في صورة الخبر ثم ألزم الله البيع من جانبه وضمن إيصال الثمن إليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وعداً عليه حقاً‏}‏، أي لا إقالة ولا استقالة من حضرة العزة‏.‏ ثم ما اكتفى بذلك بل عين الصكوك المثبت فيها هذه المبايعة وهي التوراة والإنجيل والقرآن» اه‏.‏ وهو يرمي بهذا إلى أن تكون الآية تتضمن تمثيلاً عكس ما فسرنا به آنفاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فيَقتُلُون ويُقتلون‏}‏ تفريع على ‏{‏يُقاتلون‏}‏، لأن حال المقاتل لا تخلو من أحد هذين الأمرين‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏فيَقتلون‏}‏ بصيغة المبني للفاعل وما بعده بصيغة المبني للمفعول‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالعكس‏.‏ وفي قراءة الجمهور اهتمام بجهادهم بقتل العدو، وفي القراءة الأخرى اهتمام بسبب الشهادة التي هي أدخل في استحقاق الجنة‏.‏

و ‏{‏وَعدا‏}‏ منصوب على المفعولية المطلقة من ‏{‏اشترى‏}‏، لأنه بمعنى وعد إذ العِوض مؤجل‏.‏ و‏{‏حقاً‏}‏ صفة ‏{‏وعْداً‏}‏‏.‏ و‏{‏عليه‏}‏ ظرف لغو متعلق ب ‏{‏حقاً‏}‏، قُدم على عامله للاهتمام بما دل عليه حرف ‏(‏على‏)‏ من معنى الوجوب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في التوراة‏}‏ حال من ‏{‏وعداً‏}‏‏.‏ والظرفية ظرفية الكتاب للمكتوب، أي مكتوباً في التوارة والإنجيل والقرآن‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ومن أوفى بعهده من الله‏}‏ في موضع الحال من الضمير المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏وعداً عليه حقاً‏}‏، أي وعداً حقاً عليه ولا أحد أوفى بعهده منه، فالاستفهام إنكاري بتنزيل السامع منزلة من يجعل هذا الوعد محتملاً للوفاء وعدمه كغالب الوعود فيقال‏:‏ ومن أوفى بعهده من الله إنكاراً عليه‏.‏

و ‏{‏أوفى‏}‏ اسم تفضيل من وفّى بالعهد إذا فعل ما عاهد على فعله‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ تفضيلية، وهي للابتداء عند سيبويه، أي للابتداء المجازي‏.‏ وذُكر اسم الجلالة عوضاً عن ضميره لإحضار المعنى الجامع لصفات الكمال‏.‏ والعهد‏:‏ الوعد بحلف والوعد الموكد، والبيعة عهد، والوصية عهد‏.‏

وتفرع على كون الوعد حقاً على الله، وعلى أن الله أوفى بعهده من كل واعد، أنْ يستبشر المؤمنون ببيعهم هذا، فالخطاب للمؤمنين من هذه الأمة‏.‏ وأضيف البيع إلى ضميرهم إظهاراً لاغتباطهم به‏.‏

ووصفه بالموصول وصلته ‏{‏الذي بايعتم به‏}‏ تأكيداً لمعنى ‏{‏بيعكم‏}‏، فهو تأكيد لفظي بلفظ مرادف‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وذلك هو الفوز العظيم‏}‏ تذييل جامع، فإن اسم الإشارة الواقع في أوله جامع لصفات ذلك البيع بعوضيْه‏.‏ وأكد بضمير الفصل وبالجملة الاسمية والوصف ب ‏{‏العظيم‏}‏ المفيد للأهمية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

اسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قوله‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ فكان أصلها الجر، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخباراً لمبتدأ محذوف هو ضمير الجمع اهتماماً بهذه النعوت اهتماماً أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية، ويسمى هذا الاستعمال نعتاً مقطوعاً، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى‏.‏

ف ‏{‏التائبون‏}‏ مراد منه أنهم مفارقون للذنوب سواء كان ذلك من غير اقتراففِ ذنب يقتضي التوبة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 117‏]‏ الآية أم كان بعد اقترافه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن يتوبوا يك خيراً لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏ الآية المتقدمة آنفاً‏.‏ وأول التوْبة الإيمان لأنه إقلاع عن الشرك، ثم يدخل منهم من كان له ذنب مع الإيمان وتاب منه‏.‏ وبذلك فارق النعت المنعوت وهو ‏{‏المؤمنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏‏.‏

و ‏{‏العابدون‏}‏‏:‏ المؤدّون لما أوجب الله عليهم‏.‏

و ‏{‏الحامدون‏}‏‏:‏ المعترفون لله تعالى بنعمه عليهم الشاكرون له‏.‏

و ‏{‏السائحون‏}‏‏:‏ مشتق من السياحة‏.‏ وهي السير في الأرض‏.‏ والمراد به سير خاص محمود شرعاً‏.‏ وهو السفر الذي فيه قربة لله وامتثال لأمره، مثل سفر الهجرة من دار الكفر أو السفر للحج أو السفر للجهاد‏.‏ وحمله هنا على السفر للجهاد أنسب بالمقام وأشمل للمؤمنين المأمورين بالجهاد بخلاف الهجرة والحج‏.‏

و ‏{‏الراكعون الساجدون‏}‏‏:‏ هم الجامعون بينهما، أي المصلون، إذ الصلاة المفروضة لا تخلو من الركوع والسجود‏.‏

و ‏{‏الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر‏}‏‏:‏ الذين يَدْعون الناس إلى الهدى والرشاد وينهونهم عما ينكره الشرع ويأباه‏.‏ وإنما ذكر الناهون عن المنكر بحرف العطف دون بقية الصفات، وإن كان العطف وتركه في الأخبار ونحوها جائزين، إلا أن المناسبة في عطف هذين دون غيرهما من الأوصاف أن الصفات المذكورة قبلها في قوله‏:‏ ‏{‏الراكعون الساجدون‏}‏ ظاهرة في استقلال بعضها عن بعض‏.‏ ثم لما ذكر ‏{‏الراكعون الساجدون‏}‏ علم أن المراد الجامعون بينهما، أي المصلون بالنسبة إلى المسلمين‏.‏ ولأن الموصوفين بالركوع والسجود ممن وعدهم الله في التوارة والإنجيل كانت صلاة بعضهم ركوعاً فقط، قال تعالى في شأن داود عليه السلام‏:‏ ‏{‏وخر راكعاً وأناب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏، وبعض الصلوات سجوداً فقط كبعض صلاة النصارى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 43‏]‏‏.‏ ولما جاء بعده ‏{‏الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر‏}‏ وكانا صفتين مستقلتين عطفتا بالواو لئلا يتوهم اعتبار الجمع بينهما كالوصفين اللذين قبلهما وهما ‏{‏الراكعون الساجدون‏}‏ فالواو هنا كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثيبات وأبكاراً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏‏.‏

و ‏{‏الحافظون لحدود الله‏}‏‏:‏ صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها‏.‏ وحقيقة الحفظ توخي بقاء الشيء في المكان الذي يراد كونه فيه رغبة صاحبه في بقائه ورعايته عن أن يضيع‏.‏ ويطلق مجازاً شائعاً على ملازمة العمل بما يؤمر به على نحو ما أمر به وهو المراد هنا، أي والحافظون لما عين الله لهم، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله‏.‏

وأطلقت الحدود مجازاً على الوصايا والأوامر‏.‏ فالحدود تشمل العبادات والمعاملات لما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك حدود الله فلا تعتدوها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏229‏)‏‏.‏ ولذلك ختمت بها هذه الأوصاف‏.‏ وعطفت بالواو لئلا يوهم ترك العطف أنها مع التي قبلها صفتان متلازمتان معدودتان بعد صفة الأمر بالمعروف‏.‏

وقال جمع من العلماء‏:‏ إن الواو في قوله‏:‏ والناهون عن المنكر‏}‏ واو يكثر وقوعها في كلام العرب عند ذكر معدود ثامن، وسمَّوها واوَ الثَّمانية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ذكرها ابن خَالويه في مناظرتِه لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏‏.‏ وأنكرها أبو علي الفارسي‏.‏ وقال ابن هشام في «مغني اللبيب» «وذكرها جماعة من الأدباء كالحريري، ومن المفسرين كالثعلبي، وزعموا أن العرب إذا عَدّوا قالوا‏:‏ ستة سبعة وثمانية، إيذاناً بأن السبعة عدد تام وأن ما بعدها عدد مستأنف، واستدلُّوا بآيات إحداها‏:‏ ‏{‏سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم إلى قوله سبحانه ‏{‏سبعة وثامنهم كلبهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ الثانية آيةُ الزمر ‏(‏71‏)‏ إذ قيل‏:‏ ‏{‏فُتحت‏}‏ في آية النار لأن أبواب جهنم سبعة، ‏{‏وفتحت‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ في آية الجنة إذ أبوابها ثمانية‏.‏ ثم قال‏:‏ الثالثة‏:‏ ‏{‏والناهون عن المنكر‏}‏ فإنه الوصف الثامن‏.‏ ثم قال‏:‏ والرابعة‏:‏ ‏{‏وأبكاراً‏}‏ في آية التحريم ‏(‏5‏)‏ ذكرها القاضي الفاضل وتبجح باستخراجها وقد سبقه إلى ذكرها الثعلبي‏.‏‏.‏‏.‏ وأما قول الثعلبي‏:‏ أن منها الواو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبعَ ليال وثمانيةَ أيام حسوماً‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 7‏]‏ فسهو بيّن وإنما هذه واو العطف اه‏.‏ وأطَال في خلال كلامه بردود ونقوض‏.‏

وقال ابن عطية «وحدثني أبي عن الأستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقي وأنه قال‏:‏ هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدّوا‏:‏ واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، عشرة، فهكذا هي لغتهم‏.‏ ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو» اه‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ هي لغة قريش‏.‏

وأقول‏:‏ كثر الخوض في هذا المعنى للواو إثباتاً ونفياً، وتوجيهاً ونقضاً‏.‏ والوجه عندي أنه استعمال ثابت، فأما في المعدود الثامن فقد اطرد في الآيات القرآنية المستدَل بها‏.‏ ولا يريبك أن بعض المقترن بالواو فيها ليس بثامن في العدة لأن العبرة بكونه ثامناً في الذكر لا في الرتبة‏.‏

وأما اقتران الواو بالأمر الذي فيه معنى الثامن كما قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفُتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏‏.‏ فإن مجيء الواو لِكون أبواب الجنة ثمانية، فلا أحسبه إلا نكتة لطيفة جاءت اتفاقية‏.‏ وسيجيء هذا عند قوله تعالى في سورة الزمر ‏{‏حتى إذا جاءها وفتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ عطفَ إنشاء على خبر‏.‏ ومما حسَّنه أن المقصود من الخبر المعطوففِ عليه العمل به فأشبه الأمر‏.‏ والمقصود من الأمر بتبشيرهم إبلاغُهم فكان كلتا الجملتين مراداً منها معنيان خبريّ وإنشائي‏.‏ فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون المعهودون من قوله‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏‏.‏

والبشارة تقدمت مراراً‏.‏